
قبل أعوام، تكرّم روائيّ من المغرب العربيّ بإهدائي روايته الجديدة. وانقضضت عليها بشهيّة.
خاب أملي، فقد كانت زاخرة بالعامية المحليّة التي لا أفهمها، كما قد لا يفهم كاتبها العامية السّوريّة.. ووعيت أكثر من أي وقت مضى قيمة «لغتنا العربيّة» التي تجعل الكاتب مقروءًا في عشرات الأقطار، ومن الذي يختار أن يطالعه مليون قارئ مثلًا بدلًا من مئات الملايين؟ لست أنا ذلك الكاتب ولا أوافق من يختار هذا الأفق المحدود. بالمقابل لا أجهل غواية اللّغة العاميّة بالغة الارتباط بجوهر حياتنا النّفسيّة الدّاخليّة. حسنًا. ولكنّني اضطررت لانتظار صدور التّرجمة الفرنسيّة للكاتب الشّهير، كي أطالعها وأفهم كلّ كلمة فيها، وهذا مؤسف، إذ كان بوسع كاتبها تسطيرها بلغة ملايين البشر: لغتنا العربيّة، أمّنا الكبيرة التي تحتوينا تحت عباءتها. اللّغة التي أدين بالوفاء لجماليّتها.. لغتنا العربيّة السّلسبيلية. ولأنّني أكره الكذب لصالح الأيديولوجيا، حتّى العروبيّة، شعرت مع روايتي المستحيلة «فسيفساء دمشقيّة» التي استخدمت فيها الكثير من الأمثال والمحاورات بالعاميّة، شعرت بأنّني لن أشطبها وتعاملت مع عاميتي المحبّبة بشيء من العدالة، حيث دوّنت في كعب كلّ صفحة، التّرجمة لعاميتي باللّغة العربيّة الفصيحة، فهي الأولى لدى عقلي وقلبي، أيّ أنّني أعتبرت العاميّة على نحو ما شبيهة بلغة أجنبيّة بالنّسبة إلى بقية الأقطار العربيّة، أمّا الفصيحة فهي لغتنا الأمّ التي تشكّل العمود الفقريّ لحياتنا كعرب.
الشّاعر سعد الحميدين ينتقد
ما الذي ذكّرني بما تقدّم؟ أمران: أوّلهما اتّصال من الأخ الشّاعر سعد الحميدين من الرّياض، الذي قال لي: إنّه طالع روايتي الجديدة «يا دمشق وداعا/فسيفساء التّمرد»، وله اعتراض كبير عليها، هو الهوامش في كعب الصّفحات التي تشرح بالنّحويّة ما جاء فيها من أمثال ومحاورات بالعاميّة، وكان يتمّنى لو دوّنتها في ملحق في آخر الكتاب، كما تقضي التّقاليد الأكاديميّة، وهو على حقّ عقلانيّا. بالمقابل، كنت شخصيّا أتمّنى لو أنّ ذلك الرّوائي المغاربي الكبير أضاف الهوامش ـ لو كتبها ـ في كعب الصّفحة كي لا أقطع متعة نشوة القراءة بالبحث عن رقم هوامش الصّفحات في آخر الكتاب وكي تظلّ النّشوة متّصلة، فالقراءة أيضًا هي «النّشوة المتّصلة» كما تقول الكتابات بالعربيّة على جدران قصر الحمراء في غرناطة وتلك حكاية أخرى.. إذًا، الشّاعر سعد الحميدين على حقّ، وأنا أيضًا لي وجهة نظر أخرى، وذلك يذكّرني بالوزيرة الجزائريّة نورية بن غبريط التي رغبت في التّدريس للصّغار باللّغة العاميّة، لكي لا يصعب عليهم فهم الدّروس. وثمّة حقيقة هي أنّ لغاتنا العربيّة العاميّة تختلف عن لغتنا الأمّ الكبيرة التي أعشقها، أي اللّغة العربيّة (الكلاسيكيّة).
من المهمّ عدم تخوين الوزيرة، ولا شكّ عندي في نيّتها الطّيّبة، ومن الضّروري محاورتها بعيدًا عن التّخوين الدّينيّ (فالعربيّة لغة القرآن الكريم) وبعيدًا عن التّخوين الوطنيّ. من وجهة نظري من الأفضل أوّلًا تعليم العربيّة من خلال التّعليم بها بلا تقعّر. وللمرّة الأولى أتّفق مع رئيس للوزراء هو عبد الملك سلال ضدّ رأي وزيرة/امرأة وأجد حكاية اللّغة العربيّة أمرًا ليس أقلّ خطورة من متاعب الجزائر كلّها. ولا مفرّ من أن نتعلّمها جميعًا منذ صغرنا. لغتنا التي تسري كالدّورة الدّمويّة في أرجاء عالمنا العربيّ.
أسرة الوفاء لأمّنا الكبيرة
كلّ ما تقدّم يجعلني أحتفي بما أقدمت عليه عائلة الرّاحل «الفلسطينيّ الجميل» ميشيل سنداحة، الذي لا أعرفه إلّا من خلال عطائه، ابن القدس النّاجي من سجون إسرائيل، حيث رصدت الأسرة جائزة لمسابقة في «الإبداع الأدبيّ باللّغة العربيّة» بمواجهة الكثير من العوائق أوّلها: محاولة إسرائيل اغتيال التّراث العربيّ اللّغويّ والمدارس العربيّة الأهليّة، وقتل اللّغة لتحقيق حلمها العتيق: «أرضك يا إسرائيل من النّيل إلى الفرات» هذا ما أراه أنا، وذلك لن يتحقّق يوما بوجود المناضلين، وبينهم المناضلون بالأبجديّة، وميشيل سنداحة من الأمثلة النّاصعة الفلسطينيّة على ذلك، كما أرملته السّيّدة نينا فتالة التي حملت رايته خلال حياته وبعد رحيله، في جائزة أعلنتها هي وأولادهما موسى ونادر ونرمين وسامي والأديبة الشّابة الصّديقة جدًّا رنى سنداحة، التي علمت عبرها بذلك المشروع الجميل النقيّ في أزمنة معكرة المياه.
«رسالة المحبّة» و«القدس الشّريف»
لا يتّسع المجال لذكر مجالات نضال الرّاحل سنداحة كافة، وهي كثيرة وتستحق وقفة مطولة، لكن وقفتي اليوم هي مع صلته الاستثنائيّة بالحفاظ على لغتنا العربيّة... هويّتنا» كما جاء في كرّاس أسرته الحاضنة «للإبداع الأدبيّ باللّغة العربيّة» مشيا على خطاه. وهو أمر جميل من أهدافه، كما جاء في الكرّاس التّعريفيّ به: الحفاظ على الهويّة العربيّةـ الارتقاء بمستوى اللّغة العربيّة بين أبنائنا،
ولأنّ «التّصهين» يهدف إلى تقويض الأسس العربيّةـ بخبث ـ وأوّلها الفصيحة، يتّضح لنا نبل هذه الجائزة وهدف الأسرة الوفيّة لسنداحة ولنضاله ولفلسطين. والمجال لا يتّسع للمزيد والاستشهاد بالكثير من كتابات الرّاحل سنداحة والتّحذير ـ كما ورد فيها من أخطار الصّهيونيّة على العالم العربيّ وأهميّة الوحدة العربيّة.. ولطالما طالعت مقالاته كرئيس لتحرير مجلّة «رسالة المحبّة»، وبهرتني بطليعيتها وريادتها القوميّة وروح المحبّة الصّافية فيها ناهيك عن جمالها الأبجديّ.
إلى أمثاله يفتقد زمننا العربيّ الزّاخر بالعدوانيّة، وكعاشقة مدمنة لا شفاء لها «للغتنا العربيّة...هويّتنا» أنحاز بلا تحفّظ إلى «جائزة سنداحة»، وإلى بنود حفل توزيع جوائزها وإلى شعارها هذا. فالشّعار صرخة حبّ لأمّنا الكبيرة لغتنا. وأعترف بأنّني كالكثيرين أشعر بالرّفض والضّيق وأنا أستمع إلى الكثير من مذيعي الأخبار بالعربيّة (كالذين يحاورونهم)، وهم يلحنون ويلتهمون مخارج الحروف، ويقوم بعضهم بإلغاء حروف منها مثل حرف الـ(ث) التي يلفظونها (س) بكلّ استرخاء، وحرف (ظ) الذي يلفظونه (ض) و(ط) التي يلفظونها (ت) وسواها كثير، ليوفّروا على لسانهم عناء حركة إضافيّة، حتّى أنّني صرت أستمع إلى نشرات الأخبار بالفرنسيّة والإنكليزيّة، كي لا أنفجر غيظًا، لقلة احترامهم للغتنا.. وتذكّرني جهود الرّاحل ميشيل سنداحة بقول منح الصّلح: المسلمون في لبنان حفظوا العروبة والمسيحيّون حفظوا اللّغة العربيّة.
يوم وصلت إلى بيروت قام كامل مروة صديق والدي بتعريفي على الأب يوسف عون والأب جان فاخوري وهما من جهابذة اللّغة العربيّة.
وكما قال ميشيل سنداحة: لغتنا العربيّة هويّتنا، وكلّ استهانة بها هي إيذاء لأمّنا الكبيرة.. وإهانة لها.. وتحيّة إلى الأديبة رنى ميشيل سنداحة وبقية أفراد أسرتها الوفيّة للمبادئ العروبيّة، ولفلسطين.